أداء باهر وإنجازات غير ملموسة

كتبه/ مازن أبو طاهر 

اطلعت على تقرير الأداء الحكومي الأول للحكومة الثامنة عشرة عن الفترة من 15 نيسان ولغاية 30 آب 2019، والذي جاء في نحو 60 صفحة من القطع الكبير. 

 
وليس لمن يطلع على تقرير بهذا الحجم لأداء حكومة عن فترة لا تتعدى أربعة أشهر ونصف رغم التحديات والصعوبات التي واجهتها، إلا أن يصاب بالدهشة والانبهار لهذا الإعجاز الذي إن بقي على تلك الوتيرة فسيقودنا نحو الحرية والازدهار والاستقلال خلال فترة وجيزة، وما عليه إلا أن يتساءل، أين هي تلك الأزمة المالية التي تصرخ الحكومة ليل نهار بحدتها في ظل هذا الأداء الباهر، وأن يتساءل كذلك، عن أسباب الشكوى والمعاناة التي يعيشها أبناء شعبنا والتي تزداد حدة يوما بعد يوم.

حسنا فعلت الحكومة بتسمية التقرير "الأداء الحكومي الأول" وليس "تقرير إنجازات الحكومة"، لأن من يتمعن ويتفحص محتويات التقرير يجد فيه من التكرار والإسراف في السرد الكثير، بهدف تضخيم التقرير، ويجد فيه نفس لمسات المنظمات غير الحكومية الـ (NGOs)، التي تحترف كتابة الإنجازات دون أن يلمس المواطن حقيقتها. يعدد التقرير، النشاطات والخدمات والعمل اليومي الذي تقوم به الحكومة وكأنها إنجازات خارقة، ومِنّة تجاه أبناء شعبنا، رغم أنها مهام أساسية لوزارات الحكومة ودوائرها المختلفة لخدمة أبناء شعبنا، وهي المهام التي قامت بها كل حكومة سابقة، كما أن من يدقق في قرارات الحكومة التي يوردها التقرير، يجد أن معظمها مجرد قرارات تنظيمية وإدارية لم ترق لمستوى الإنجاز، أما تلك القرارات ذات المضمون، فهي ما هي إلا استكمال لمشاريع سابقة كانت حكومة الوفاق الوطني قد بدأتها، وهي بذلك تستند إلى أمجاد وإنجازات ليست لهذه الحكومة علاقة بها رغم أنها تنسبها لنفسها.

لقد تجاهلت الحكومة في تقريرها تماما خطط الحكومات الفلسطينية المتعاقبة وبرامجها، بل وتباهت بوضع سياسة التخطيط "بالعناقيد" في الوقت الذي كان بين يديها أجندة السياسات الوطنية للأعوام 2017- 2022(المواطن أولا) شملت كافة القطاعات وجميع محافظات الوطن، والتي أعدتها حكومة الوفاق الوطني ضمن عملية تشاورية عريضة مع الشركاء والمعنيين كافة، المحليين والدوليين لمواصلة العمل والمراكمة على الإنجازات السابقة والتي كان يمكن للحكومة الحالية البناء عليها توفيرا للمال والوقت والجهد. كما أنها تجاهلت في تقريرها أو غاب عن بالها أنه كان من الأجدر أن تكشف بكل مصداقية ونزاهة للجمهور الفلسطيني الذي اعتمدت حكومته موازنة للطوارئ، أداء يتناسب مع مرحلة الطوارئ التي نعيشها، وأن تضع خططها وبرامجها وفق قدراتها وإمكانياتها، وليس عبر عشر محاور "استراتيجية"، واتخاذ قرارات تطرب أذن سامعها تحت شعارات "الانفكاك عن الاحتلال" وهذا عمليا كشعار غير ممكن بدون دولة ذات سيادة كاملة على كافة المقدرات وأولها الحدود والموانئ والمطارات والمعابر. الخ، و"التوجه نحو عمقنا العربي" وهنا يكفي الإشارة إلى أن الحكومة تقدمت بطلب تصريح للسلطات الإسرائيلية التي تريد الانفكاك عنها لاستيراد النفط من العراق الشقيق، بما يعني نسف مفهوم الانفكاك أعلاه الذي طرحته هذه الحكومة كشعار مرغوب شعبيا وغير ممكن عملياً، و"وقف التحويلات الطبية إلى المستشفيات الإسرائيلية" الذي هو موقف سابق من كافة الحكومات السابقة، ولكن السؤال لماذا لا نطور مستشفياتنا ونبني مستشفيات جديدة، ونأتي بالكفاءات الفلسطينية الطبية التي تملأ العالم، وبالذات الدولة التي نريد الانفكاك عنها؟!! وبحيث يتم التعامل مع هذه الكفاءات وفقا لمفهوم السوق، وليس على أساس سلم الدرجات في وزارة الصحة، و"وقف استيراد العجول من إسرائيل" والتي أثارت تساؤلات لدى العديد من المختصين حول جدواها ولماذا الآن؟ إن الإيحاء لأبناء شعبنا بأن كل ذلك يُعبر عن قرارات مصيرية ستحقق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال ليس سوى تعبير عن وهم سياسي واقتصادي يعلمه جيدا كل مختص بهذا الشأن، وكان الأجدر بالحكومة أن تعمل على معالجة الملفات الداخلية ألأسهل بكثير من هذه الملفات والتي لا تقل أهمية عنها، بل تكون هي المقدمة والبنية التحتية للقرارات المصيرية.

إننا لا نقصد بذلك أننا نقلل من شأن تلك القرارات المصيرية، أو نقف ضدها، إلا أننا نؤكد بأن هذه القرارات وكل حكومة تتخذها ستجد كل الدعم والتأييد من أبناء شعبنا، عندما تصارح أبناء شعبنا بكل شفافية بإمكانياتها وقدراتها دون مواربة أو تضليل، وعندما لا تبالغ في سرد تحقيق إنجازات وهمية، وعندما تتوقف عن التنكر لإنجازات شعبنا التي حققها بالدم والعرق والدموع، والإقرار بحجم الإنجازات التي قامت بها الحكومات الفلسطينية السبعة عشر على مدى ربع قرن، بدءا من الحكومة الأولى بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات، وكيف راكمت كل حكومة على إنجازات الحكومة التي سبقتها، ولم تلق باللائمة عليها وإنما قدرت جهدها وعملها، لإدراكها لحجم التحديات والصعوبات والعقبات التي تواجه أي حكومة فلسطينية في ظل الاحتلال وقيوده وإجراءاته، وعندما تتوقف عن إطلاق الوعود والشعارات الرنانة، وتشويه الحقائق والادعاء بإنجازات كانت الحكومات السابقة قد بدأتها وتجييرها لصالحها.

وسيقدر أبناء شعبنا الفلسطيني العظيم عاليا، وسيقدمون الدعم والتأييد لخطط الانفكاك عن الاحتلال والتوجه نحو عمقنا العربي وكل خطة تضعها الحكومة، عندما يرى من حكومته توجها حقيقيا لمعالجة العديد من الملفات الداخلية الهامة والحيوية منها على سبيل المثال لا الحصر ملف الهيئة العامة للبترول وملف الكهرباء الذي بدأنا نتلمس مخاطرة بإقدام إسرائيل على قطع التيار الكهربائي عن بعض المناطق مؤخرا بحجة تراكم الديون، وملف المياه وملف ديون مستشفيات العاصمة على السلطة وملف التبغ ومكافحة التهريب وملف التهرب الضريبي الذي رغم ادعاءات وزارة المالية بتوسيع القاعدة الضريبية وزيادة الإيرادات المحلية، إلا أنها لم تقدم على أي خطوة نحو إلزام شرائح واسعة بدفع الضرائب المستحقة عليها، إضافة إلى معالجة التهرب الضريبي من قبل دافعي الضرائب. هذه الملفات والحيوية التي تستنفذ مبالغ ضخمة من الخزينة العامة كانت حكومة الوفاق الوطني قد بدأت بمعالجتها وأخذت جزءا كبيرا من جهدها، وقطعت فيها أشواط كبيرة ولم يسعفها الوقت لإنجازها كاملة، وما على الحكومة الحالية إلا بذل المزيد من الجهد والجرأة والمتابعة الحثيثة لاستكمال إنجازها، وفقا للقانون والنظام، وتحقيقا لمبدأ النزاهة والشفافية، وليس وفقا لأهواء الناس ومصالحهم الذاتية، وإلزام الجميع دون تمييز بدفع الضرائب وتسديد المستحقات مقابل الخدمات التي يتلقونها وخاصة في مجال الكهرباء والمياه والبترول، وذلك حرصا من الحكومة على ترشيد النفقات وحفاظا على المال العام وبما يساهم في تعزيز ثقة المواطنين بحكومتهم وإشادتهم بأدائها الحقيقي والملموس.

للأسف الشديد، عند مقارنتنا لتقرير أداء الحكومة الحالية بتقرير إنجازات حكومة الوفاق الوطني، والذي استعرضت فيه جملة بسيطة فقط من الإنجازات التي تم تحقيقها في مختلف المجالات، فإننا ندرك تماما حجم التضليل والتشويه الذي تمارسه الحكومة، فيما يتعلق بعملية إعادة إعمار قطاع غزة، وتجاهل المعجزة التي تمكنت حكومة الوفاق الوطني من تحقيقها في أصعب الظروف فيما يتعلق بهذا الملف بإنجاز 95% من عملية إعادة إعمار البيوت التي هدمت كليا وجزئيا، إضافة إلى إصلاح الدمار في مختلف القطاعات الأخرى، رغم الحصار المفروض على قطاع غزة، ورغم عدم تمكين حكومة الوفاق الوطني من أداء مهامها، وعدم التزام بعض الدول بتقديم الالتزامات التي تعهدت بتقديمها لهذه العملية، وكيف قامت حكومة الوفاق الوطني بإعادة توزيع مواردنا المالية المحدودة للتخفيف من معاناة أبناء شعبنا في قطاع غزة، وفي تمكن حكومة الوفاق الوطني من صرف الرواتب كاملة، وصرف الإعانات الاجتماعية في موعدها طيلة فترة عملها رغم الأزمة المالية والحصار المالي الذي فرض على حكومة الوفاق الوطني، وفي توفير الأمن وبسط سيادة القانون والنظام العام، وفي دعم صمود أهلنا ومستشفياتنا ومؤسساتنا في المدينة المقدسة، وفي الأغوار والمناطق المسماة "ج" وخلف الجدار، وفي الإنجازات الخارقة في قطاع التعليم وفي إصلاح والنهوض بقطاع الصحة، وفي دعم حقوق المرأة الفلسطينية دعما عمليا ملموسا وليس بمجرد بيانات دعم ومناصرة، ودعم الشباب الفلسطيني، وفي النهوض باقتصادنا الوطني بكافة فروعه، وإنجاز المشاريع التطويرية في قطاعات التعليم والصحة والزراعة والسياحة والثقافة والبنية التحتية، بما يشمل مشاريع الطرق والكهرباء والطاقة الشمسية والمياه وشبكات الصرف الصحي، ومعالجة المياه العادمة، وفي تسوية الأراضي وإقامة الحدائق التكنولوجية والمدن الصناعية في أريحا وبيت لحم وفي ترقوميا بمحافظة الخليل، والمنطقة الصناعية في جنين التي يشير تقرير إنجازات حكومة الوفاق الوطني إلى أن رئيس الوزراء السابق الدكتور رامي الحمد الله قد بذل جهودا جبارة لإنجاز هذا المشروع الحيوي الهام من خلال توقيعه عام 2013 على مذكرة تفاهم مع الشركة التركية المطورة للمنطقة الصناعية ومتابعته الحثيثة لتذليل كافة العقبات أمام إنجاز هذا المشروع الذي سيوفر 15 الف فرصة عمل، وقيامه عام 2015 بافتتاح محطة لتحويل الكهرباء بمحاذاة المنطقة الصناعية مما ساهم في التسريع بإنجاز المشروع، إضافة إلى إعادة تأهيل وتطوير مرافق مدينة غزة الصناعية التي تم تدميرها وتوسيع هذه المنطقة، وكيف تمكنت حكومة الوفاق الوطني من حشد التمويل اللازم لإقامة محطة تحلية المياه في قطاع غزة، وفي إقامة مشروع محطة معالجة المياه في شمال قطاع غزة، وفي إقامة عشرات المدارس الجديدة ومدارس التحدي والصمود في المناطق النائية، والمستشفيات والمراكز الصحية، وغيرها من آلاف المشاريع في مختلف المجالات في كامل محافظات الوطن.

الحكومة الفلسطينية الحالية ادعت في بداية تسلم مهامها، بأنها تريد أن تبدأ مرحلة جديدة، تريد استعادة ثقة الجمهور الفلسطيني بحكومته، ولسد الثغرات مع المواطنين، لكن تقرير أدائها الأول جاء باهتا ومضللا، لأنها لم تدرك أن الوفاء والاعتراف بجهد من سبقها لا بإنكاره، والاستفادة من التجربة الفلسطينية الحكومية بكل عبرها ومصاعبها هو الخطوة الأولى على طريق نيل الثقة والنجاح، ولم تدرك أن إنجازات الحكومة ليس بما تسرده في تقرير إنشائي، هذا إذا كان في الأصل متعلق بها، وإنما بقدر ما يراه المواطن الفلسطيني منقوشا على الأرض وليس مكتوبا على صفحات منمقة، وبما يتلمسه من جهود صادقة جدية لدعم صموده والتخفيف من معاناته، وليس بإسماعه تصريحات وبيانات رنانة، والذي لم يبخل يوما في دعم ومساندة كل صادق أمين.

باختصار، وللأسف، فإن تقرير الأداء الحكومي الأول قد جاء معبرا عن استمرار عقلية الشعارات وعقلية الكتابة الإنشائية، وعن عقلية الأنا والإلغاء لكل ما سبق بحثا عن مجد وإنجاز وهمي بعيد عن واقعنا الحقيقي الذي نعيشه، ومنفصلا عن آلام شعبنا وتطلعاته في الحرية والاستقلال وضمان العيش الكريم لكل أبنائه.