على وقع جولة التصعيد الأخيرة... المقاومة وكلام في الممنوع

بقلم/ أنور أبو رجب

جميعها متشابهة إلى حد كبير، من حيث الأسباب والوسائل والنتائج وإن اختلفت مستويات العنف والدمار وأرقام الخسائر البشرية والمادية وعدد الأيام والأيتام، ونقصد هنا الحروب وجولات التصعيد التي تعرض لها قطاع غزة على مدار عقد ونيف، فعادة ما تكون الأسباب أو بشكل أدق "الشرارة" التي تقود لاندلاع الحرب إما تتويجا لحالة من التوتر تشهد اشتباكات متقطعة وعمليات اغتيال كما هو الحال في جولة الحرب في سبتمبر 2008، وإما بسبب عملية تنفذها الأجنحة العسكرية للفصائل كما حدث في يونيو 2014 (خطف وقتل ثلاثة مستوطنين)، أو بسبب عملية اغتيال لقيادي من الفصائل، كما هو الحال في جولة نوفمبر2012 (اغتيال احمد الجعبري قائد القسام)، واغتيال القيادي في سرايا القدس بهاء ابو العطا في جولة التصعيد الاخيرة.
على مستوى النتائج التي ترتبت على هذه الجولات، فهي وحسب الشواهد والأرقام والإحصائيات كانت كارثية على المواطن في قطاع غزة وليس على أحد سواه بما في ذلك الفصائل ومقدراتها وقياداتها (فالمقاومة بخير- حسب قول خالد مشعل بعد حرب 2014 المدمرة)، فالشهداء بالآلاف من بينهم أسر بأكملها شطبت من السجل المدني الفلسطيني، والجرحى ومبتورو الأطراف قاربوا العشرين الفا ما زال الآلاف منهم بدون علاج وبدون أطراف(الاحصائية هنا لا تشمل الشهداء والجرحى في ما يسمى مسيرات العودة)، والبيوت المدمرة كليا أو جزئياً تجاوزت الخمسة عشر ألفاً، وما زالت مئات الأسر حتى هذه اللحظة هائمة على وجوهها لا تجد مأوى لها، وتم تدمير ما يزيد عن المائة وخمسون مصنعاً مما أضاف عشرات الآلاف من العمال على قائمة البطالة، بالإضافة الى تدمير البنى التحتية والخسائر الاقتصادية التي قدرت بأكثر من خمسة مليار دولار، ناهيك عن تزايد نسبة الفقر والبطالة والتسول، وتزايد التآكل في البنية الاجتماعية (قتل – سرقة – طلاق – انتحار - هجرة من الموت الى الموت)، ونتوج ذلك كله باحتفالات ومهرجانات النصر. أما النتائج على المستوى الاسرائيلي فهي لا تذكر بالمقارنة بما لدينا، وهي مقارنة ظالمة ومجحفة، إذ يكفي أنه وبمجرد أن تضع الحرب أوزارها تعود الحياة الى طبيعتها ومعالجة الآثار التي ترتبت عليها دون اقامة مهرجانات واحتفالات النصر، وإنما البدء بجلسات واجراءات المحاسبة والمساءلة وأخذ العبر والدروس، فأين أنتم من ذلك؟؟؟ وهنا لا بد من القول ان معايير النصر والهزيمة لا تحددها مستوى وحجم الخسائر لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي وإنما مستوى وحجم الخسائر لدينا. والسؤال المهم هنا: إذا كانت حماس تبرر عدم مشاركتها في الجولة الاخيرة من التصعيد وترك الجهاد الاسلامي منفرداً في ميدان المعركة برغبتها تجنيب المواطن الفلسطيني ويلات الحرب الشاملة، فلماذا الاستمرار في خطابها العنتري؟ ولماذا الاستمرار في تكديس السلاح على حساب المواطن وحقه في حياة كريمة؟
لا يتوقف الأمر على الكوارث التي تمس حياة ومتطلبات المواطن الفلسطيني بشكل مباشر، وإنما يتزامن معها ويلازمها كوارث ذات أبعاد سياسية خطيرة وفي مقدمتها كوارث الخطاب الاعلامي للفصائل المسلحة، والتي تلحق بنا هزائم متواصلة في "حرب الرواية"، فقادة "المقاومة" مبدعون في منح الاحتلال الاسرائيلي مادة إعلامية دسمة بين فترة وأخرى، وهم يتغنون بانتصاراتهم الوهمية وقدراتهم الخارقة وجيوشهم العرمرم، وصواريخهم العابرة للقارات، وقطع الرؤوس و"الطربقة"، بما يمنح خطاب المظلومية ولعب دور الضحية الذي تجيده اسرائيل مصداقية أمام الرأي العام الدولي، الذي يبدأ بمطالبتنا بعدم استهداف المدنيين "الآمنين"، ناهيك عما يسببه ذلك من إضعاف للخطاب العقلاني الوطني المستند الى قوة الحق والمنطق بإظهار مظلومية الشعب الفلسطيني بوصفه ضحية للاحتلال الاسرائيلي آخر احتلال في العالم. وفي هذا السياق نشير أن الفصائل المسلحة أطلقت ما يقارب العشرة آلاف صاروخ في الحروب الثلاثة السابقة على المستوطنات والمدن الإسرائيلية دون نتائج مؤثرة، سوى ما يتغنى به البعض بأن "المقاومة" فرضت منع التجول على الإسرائيليين، وهنا نتساءل في أي ميزان نضع هذا الانجاز مقابل آلاف الشهداء والجرحى والدمار بفعل الصواريخ الاسرائيلية.
كارثة أخرى لا تقل أهمية، وهي تشويه صورة وفهم ونمط المقاومة الشعبية السلمية عبر ما يسمى بمسيرات العودة، والذي دخل قاموس الاستخدام لدى بعض الفصائل متأخرا جداً بعد أن كان محط سخرية واستخفاف، لاسيما وأن حماس فرضت رؤيتها في إدارة هذه المسيرات وابتدعت ما يعرف ب "الوسائل الخشنة والوسائل الناعمة" ووظفتها بما يخدم مصالحها الحزبية وإستراتيجيتها المتمثلة باستمرار سيطرتها على قطاع غزة، وهو ما يتقاطع وينسجم مع المصلحة الاسرائيلية بالإبقاء على الانقسام الفلسطيني واقعا مستداماً. الخطاب المزدوج لحركة حماس في التعاطي مع مفهوم المقاومة الشعبية السلمية من جهة وخطاب وسلوك قادتها في التعامل مع هذه المسيرات قدم صورة متضاربة ومتناقضة عن جوهر هذا المفهوم، وبالتالي كانت النتائج السياسية صفرا مقارنة بحجم التضحيات من شهداء وجرحى ومعاناة، ليس هذا وحسب وإنما اذا تعمقنا اكثر سنجد ان المستفيد من هذا النمط "المشوه" هو الاحتلال الاسرائيلي.
آخر كارثة ونأمل أن تكون الأخيرة هي الفشل الذي أصاب ما يعرف بـ "الاجماع الفصائلي على وحدة المقاومة" وصورية ما يعرف بالغرفة المشتركة لفصائل "المقاومة"، بعد أن خاضت حركة الجهاد الاسلامي جولة التصعيد الاخيرة منفردة، ووقفت حماس وفصائل أخرى على الحياد، و"حسناً فعلت" بغض النظر عن النوايا والحسابات والدوافع الحزبية التي بموجبها اتخذت هذا الموقف. ما جرى أثار العديد من التساؤلات المحقة، من ضمنها: هل نحن أمام تطور جديد يسمح لكل فصيل أو جناح عسكري أن يفرض رؤيته ونزواته وانفلاته ويجر الجميع الى مربعه؟ وهل سيخضع شعبنا لتباين الفهم الفصائلي للمقاومة وأساليبها وأنماطها وتوقيتها؟ وهل الحياد في مثل هذا الوضع هو حياد وطني أم تآمر مع الاحتلال؟
خلاصة القول: لقد آن الأوان للوقوف بحزم والحديث بجرأة عالية لوقف هذا العبث بقضيتنا الوطنية وبحياة وكرامة المواطن الفلسطيني خاصة في قطاع غزة باسم "المقاومة"، والتي ثبت من واقع التجربة أنه تم اختطافها "كمفهوم" والمتاجرة بها لمصالح وأجندات حزبية، وبهذا الفهم الحقت اضراراً لا يمكن حصرها بقضيتنا وبشعبنا، لا سيما وأنها تحولت لأداة تخدم دول وسياسات ومحاور إقليمية تمنح وتمنع وفق ما تخدم "المقاومة" أجنداتها. وللخروج من هذه الحالة البائسة فإن السبيل الوحيد هو اجراء الانتخابات ومنح المواطن حقه في اختيار البرنامج الذي يرى فيه ما يحقق له طموحه الوطني ويحفظ له حياته وكرامته بوصفه أكثر المتضررين والخاسرين.