thumb.jpg
thumb.jpg

لبنان: الانتفاضة والهوية الوطنية الجامعة ومحاولات الإجهاض

بقلم / عبير بشير
اختبر لبنان عبر تاريخه تجارب الحرب والمقاومة والفتن الطائفية. وها هو يكتشف، للمرة الأولى مظاهر الثورة الشعبية الجامعة، التي كان الشعب اللبناني يتوق إليها وكانت السلطة تستبعدها. إنها ثورة الفرد في انتفاضة جماعية. استعاد اللبنانيون المساحات العامة التي كانت حكراً على السلطات. تحول موقف اللعازارية - من أشهر مباني وسط بيروت - إلى هايد بارك، مساحة للقاء والتبادل الثقافي والمحاضرات والنقاشات المفتوحة.
فوجئت السلطة في لبنان بالحدث أكثر مما فوجئت بالجماهير، الجماهير ستعود يوماً إلى بيوتها، أما الحدث فدخل التاريخ ولن يتوقف حتى ينهي مهمته، والتاريخ مليء بثورات نجحت وأخرى فشلت.
ويسود الارتباك السلطة اللبنانية، كما الانتفاضة المبتكرة، فكلاهما لا يملك فهرس الحدث ولا طريقة الاستعمال.
وتدل كل المؤشرات على أن أزمة السلطة السياسية وعجزها قد يتحولان إلى التركيز على إنهاء الانتفاضة، بالقمع والتحرش بالمتظاهرين، وإثارة النعرات الطائفية. وتراهن السلطة السياسية، على أن الشعب اللبناني، ستخور قواه قريباً، وسييأس، وينسحب من الشارع.
في المقابل، أعادت السلطة تمثيل احتفال الاستقلال الذي مثلوه عاماً بعد عام منذ 1943. هذه المرة بدت فائضاً لا لزوم له، وبدا أقطاب السلطة خلال الاحتفال مضحكين ومحزنين في وقت واحد.
ويبدو لبنان أمام "سفربرلك" جديد بفعل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تلامس الخطوط الحمر والفقر، وكأن جراد 1916 يعود إلى الواجهة مجدداً، مع رفع خراطيم محطات المحروقات، وارتفاع الأسعار، وشح الدولار والمواد التموينية.
وكشفت أحداث الأيام الأخيرة على تطورين مهمين: الأول سياسي؛ مع انسداد كل مخارج الحلول للتكليف والتأليف، خصوصاً عندما أعلن سعد الحريري في بيان له عن رفضه لأي تكليف له برئاسة الوزراء، مع رفض الفريق الآخر لحكومة التكنوقراط. وقال بصراحة في بيانه: "ليس أنا، إنما شخص غيري، ولن أترأس حكومة مصيرها السقوط في الشارع والفشل الاقتصادي، ولن أغطي حكومة تفليسية أتحمل مسؤولية تغطيتها".
وترافق ذلك مع تصدر شواية حرق أسماء المرشحين السنة لرئاسة الوزراء للمشهد، والذي يمكن أن يكون المهندس سمير الخطيب من ضمنهم.
والثاني شارعي؛ مع فشل محاولات استخدام الشارع لتخويف الشعب اللبناني، وتخويف سعد الحريري من الفوضى، إذا لم يذعن لمطالب حزب الله بترؤس الحكومة الجديدة، ويتعامل الثنائي الشيعي والتيار العوني، مع سعد الحريري، وكأن دوره يقتصر على توفير الغطاء السني للحكومة القادمة بشروطهما، وكأن وظيفة الحريري، تنفيذ أجندتهم وتسهيل مصالحهم، خصوصاً مع الخارج.
ومع عزوف الحريري عن ترؤس الحكومة الجديدة، يكون قد انتفض على نفسه، وعلى مسيرة ثلاث سنوات من التسوية الرئاسية التي أوصلت عون للرئاسة الأولى، وانتفض على محاولات تصويره معرقلاً عملية ولادة الحكومة الجديدة، فانسحب، ببيان واضح "وضوح الشمس"، من لعبة التكليف والتأليف.
ويدرك الحريري الذي تنازل عن التكليف، عمق الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، خصوصاً القطاع المصرفي فيه، وأنه لا مجال للحصول على أي مساعدات عربية أو دولية، خصوصاً من الولايات المتحدة، في حال تمثّل حزب الله في الحكومة.
وعلى طول رحلة الشروط والشروط المضادة، بين الحريري وشركاء التسوية الرئاسية، تحصن الحريري بشروط خمسة للموافقة على ترؤس الحكومة المنتظرة، وهي:
1- أن تكون حكومة تكنوقراط صافية تخلو من أي تمثيل للقوى السياسية.
2- أن تندرج تحت عنوان أنها حكومة إنقاذية لفترة زمنية محدودة تمتد إلى 9 أشهر وتنصرف إلى مهمتين اثنتين: الأولى الحد من التدهور النقدي والاقتصادي من خلال إصدار رزمة قرارات وإجراءات لهذه الغاية، والثانية وضع قانون انتخاب جديد يمهد للذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة.
3- أن تُعطى هذه الحكومة صلاحيات تشريعية مفتوحة تحت مبررات أن طبيعة المرحلة استثنائية وتحتاج إلى تشريعات مرنة وعاجلة.
4- عدم المسّ بقائد الجيش وحاكم مصرف لبنان أو طرح مسألة إجراء تعيينات أمنية واسعة تحت عنوان تحديد المسؤوليات عما جرى أخيراً.
وإذا كانت المشكلة عند حزب الله من حكومة تكنوقراط، تتمثل في خوفه من الخروج من الحكومة اللبنانية، وانكشافه خارجياً. فإن المشكلة عند جبران باسيل والتيار العوني في مكان آخر، فإن حكومة من هذا النوع ستخرج باسيل من السلطة، وستعرقل قدرته على التحكم بالوزارات، ومفاصل الحكومة، ولأن مشروع باسيل سلطوي بامتياز، ودينامية حكومة الاختصاصيين لن تقف عند حدود انتزاع وزارات كانت بحوزته، بل ستمتد على مستوى كل الذهنية المتبعة في إدارة الدولة. إنه باختصار انكسار غير قابل للتعويض للمشروع الباسيلي.
ورغم خطورة الأوضاع المالية والاقتصادية، يتلكأ قصر بعبدا في تحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة. ولا يعود التأخير في تحديد موعد الاستشارات إلى تعثر التفاهم على شخصية الرئيس الذي سيكلف تشكيل الحكومة، أو على شكلها وتركيبتها، بل يقف في الدرجة الأولى عند رفض تحالف العهد العوني و"حزب الله" تقديم أي تنازل من خارج تسوية مربحة تحفظ المكاسب المحققة لهذا الحلف بفعل الانتخابات النيابية الأخيرة، وفائض القوة الذي يوفره الحزب ويغطي كل أدائه السياسي الداخلي والإقليمي.
ومن الواضح أن لبنان يمر في مرحلةِ تغييرات تاريخية. المرحلة تفوق خطورة المراحل التأسيسية السابقة. ففي الماضي كان هناك رعاةٌ وضمانات وحلفاء موثوقون، وكانت هناك مرجِعيات قادت المراحل الانتقالية: الكنيسة المارونيّةُ قادت بناء لبنان الكبير. والطبقة السياسية الوطنية قادت معركةَ استقلال لبنان.
أما صرخة "شيعة شيعة شيعة" التي أطلقها أنصار حزب الله، وحركة أمل، أثناء المناوشات مع باقي المتظاهرين اللبنانيين في الشياح وعين الرمانة وجسر الرينغ قبل أيام، فقد كان ظاهرها استفزازاً للطوائف الأخرى، وباطنها استجداء للشيعة أنفسهم، حتى لا يغادروا شيعيتهم السياسية بصفتها الهوية الحامية لهم، وفي هذه الصيحة محاولة يائسة "لاسترجاع" الشيعة اللبنانيين واستعادتهم إلى شيعتهم، وتكشف الهلع من تنامي حس وطني لدى الطائفة الشيعية، والتوق إلى هوية لبنانية جامعة. وفي هذه الصيحة محاولة يائسة لاستدراج هويات أخرى للنزال، وتأليب شارع ضد شارع، لإجهاض الانتفاضة اللبنانية.
ففي لبنان كما في غيره، حين تكون الطائفة، أي طائفة، في عز قوتها وعنفوانها، مكتفية بوهج صواريخها وبرعايتها الخارجية، يستحيل أن ينشأَ مشروع وطني. حصل هذا مرتين سابقاً، الأولى حين اشتد عود طائفي – السنة - بقوة سلاح المقاومة الفلسطينية، والمرة الثانية حين اشتد عود طائفي مضاد – الشيعة – بسلاح مقاومة الاجتياح الإسرائيلي. وأمكن للمشروعين الطائفيين تلفيق وطنية ما والتظاهر بالاستحواذ عليها، وفي المحصلة خسر لبنان الدولة.
وإذا كانت الانتفاضة الحالية ستنتصر لأنها شعب، لكن لا قيمةَ لأي انتصار إذا خسرنا لبنان. السلطة مؤقتة والثورة مرحلة، لكن لبنان دائم.