إبداع رمش العين

 عمر حلمي الغول

حكايا الإبداع الإنساني لا تتوقف عند نموذج بعينه، فالتاريخ حمل للبشرية قصصاً وروايات لا تعد ولا تحصى، بعضها آثر البقاء، وبعضها غمرته وغطته أتربة الزمن، أو وضع في إحدى الزوايا المظلمة. والإنسان الكائن الناطق، والذي لا تقاس رحلته في الحياة إلا لحظة، كما ومضة البرق، بيد أنه تمكن بتجربته المتراكمة والمتوارثة من جيل لجيل من تقديم نماذج فذة وعبقرية ساهمت بإغناء التجربة الإنسانية في حقول المعرفة والعلم، وكافة مناحي الحياة.

من هذه النماذج تجربة فريدة على ما اعتقد، تمثلها الكاتب والصحفي الشهير جان دومينيك بوبي، محرر مجلة الأزياء الفرنسية "ELLE"، الذي تعرض وهو في سن الـ43 عاما وبالتحديد في الثامن من كانون الأول / ديسمبر 1995 بشكل مفاجئ لجلطة حادة، أودعته سرير الغيبوبة لمدة عشرين يوما كاملة، وعندما استيقظ وجد نفسه حبيس جسده، مصابا ومقيدا بالشلل الكامل، وهو ما يطلق عليه طبيا "متلازمة المنحبس"، والتي تشير إلى إصابة أغلب أعضاء الجسم بالشلل التام، لكن العقل يبقى يقظا ويعمل بانتظام واتزان.

وبذلك دخل دومينيك لحظة فارقة في حياته، لأنه لم يعد قادرا على فعل شيء، ولا يملك القدرة على محاكاة الحياة بعناوينها ومظاهرها المتعددة والمتنوعة، لأنه لا يستطيع تحريك أي عضو من جسده، ولا يستطيع النطق، ولا الكتابة، إلا أنه كان يملك القدرة على تحريك رمش عينه الأيسر فقط. وبه تسلح بالإرادة والتصميم، الذي لا يعرف للاستسلام طريقا، ليبث العالم مشاعره عبر الكتابة من خلال تدريب ذاته، وبمساعدة مساعدته "كلود ميندي بيل" من خلال نطق حروف اللغة أمامه، وعندما يتطابق الحرف مع ما يريد كان يغمض جفنه، وكانت كتابة نصف صفحة في اليوم تستغرق ست ساعات عمل كاملة.

بفضل الجهد المضني منه ومن مساعدته كلود أنتج دومينيك المبدع أهم مؤلفاته بعنوان "بدلة الغوص والفراشة" في 150 صفحة، الذي روى فيه تجربته المرة. وحكى العالم بما اعتمل في عقله وصدره، وباح مكنوناته. وما إن صدر مؤلفه حتى حاز على أعلى نسبة مبيعات، ثم تحول في عام 2007 إلى عمل سينمائي بذات العنوان، أخرجه، جوليات شنابل، وقام بدور بوبي الممثل "ماثيو أمالريك"، وحاز الفيلم على العديد من الجوائز والترشيحات، من ضمنها جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان، وجائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم بلغة أجنبية .. إلخ.

كانت المفارقة أن جان دومينيك رحل بعد ثلاثة أيام من صدور الكتاب، بالضبط في التاسع من مارس 1997، أي وهو في عمر الخامسة والأربعين. وبعد أن حقق برمش عينه إعجازه، وأكد للعالم كله، أنه لا يوجد مستحيل، ويستطيع الإنسان أن يصنع ما لا يمكن تصوره، أو اعتباره مستحيلا، حيث أكد دومينيك عدم وجود هذا المستحيل.

وأذكر مع الفارق بين التجربتين الإنسانيتين، أن الكاتب المسرحي العربي السوري، سعد الله ونوس أنتج في آواخر أيامه وهو يصارع مرص السرطان أهم كتاباته في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وهي "منمنمات تاريخية" و"الليالي المخمورة" و"طقوس الإشارات والتحولات" ولم يستسلم نهائيا للمرض، مع أنه كان مدركا أنه يسير بخطى حثيثة نحو الموت، لكنه لم يخشه، وجابهه بصناعة الحياة من خلال كتاباته وعطائه المعرفي.

وكنت زرت المبدع العربي الكبير سعدالله ونوس في بيته في منطقة ركن الدين بمدينة دمشق أثناء المرض، وعشية رحيله، واستمعت إليه جيدا، وهو يؤكد أنه لا يهاب السرطان، وسينتصر عليه بسلاح المعرفة، وقال لدي مشاريع كتابة أتمنى أن أنجزها قبل الرحيل. وهذا ما حصل.

تجربتان محتلفتان، لكنهما حملتا هدفا واحدا، التصميم على مجابهة المرض والإعاقة. نعم تجربة جان دومينيك الإبداعية أكثر غرائبية، وفيها جنون الإرادة والإبداع في آن، والقدرة على صناعة المستحيل برمش العين. كان بالتأكيد عملا خارقا للمألوف، ولذا يستحق دومينيك الإنسان والمبدع التكريم، وكل من هو على شاكلته، وخاض غمار تجربته الاستحضار الدائم لتكريس تجاربهم الحية كعنوان للعطاء والإبداع والخلق المعرفي. والتأكيد لكل بني الإنسان، أن الإنسان قادر، وأيا كانت درجة الإعاقة والعجز في جسده على العطاء والإنتاج في مختلف ميادين وحقول الإنتاج المعرفي وغير المعرفي وضمن شروطه المحيطة به.

[email protected]