thumb (20)
thumb (20)

هذا ما قالوه لي!

أدهم شرقاوي أصعب الأشياء في الحياة هي البدايات، فعليها تترتبُ كل الحماقات اللاحقة! هذا ما يقوله واسيني الأعرج، وإنّي لأصدّقه، فأكثر ما يُتعبني في النصوص بداياتها، ثمّ إذا استقامت لي هان ما بعدها! ولم يكن واسيني هو الشخص الوحيد الذي قال لي شيئاً، مُذ كنتُ صغيراً وهم يقولون لي، وهذا لا يعني أنهم كفّوا عن القول الآن، ويُخيّل إليّ أحياناً أنّ النّاس وُجدوا في الحياة ليقولوا! (١) قالوا لي: أنجِبْ ولداً يحملُ اسمكَ بعد موتك! هذا الاسم الذي اختاروه لي قبل أن أولد لا أعرفُ لِمَ عليّ أن أقلقَ بشأنه حتى بعد أن أموت! اتخذتُ صديقاً نصرانياً، كان مؤدباً كأنه سورة الحجرات، نقيّ كأنه ماء وضوء! ولكننا نهاية المطاف افترقنا لأننا في عقلينا لم نلتقِ وعلى سيرة الأسماء.. قال لي صديقي مرّةً: أتحبُّ اسمكَ؟ قلتُ له: لا أحبه ولا أكرهه! فقال لي: أعني هل تراه جميلاً؟ قلتُ له: عندما تناديني أمي به! المهمّ أنّ الأسماء عندي لا تهمّ! فرأس النّفاق كان اسمه عبد الله، والذي غسلته الملائكة كان اسمه حنظلة! (٢) صديقي الآخر قال لي: لو قُدّر لكَ أن تكون كاتباً غيركَ فمن تختار لتكون؟ قلتُ له: حسّان بن ثابت! فسألني بدهشة: لِمَ حسّان تحديداً؟ قلتُ له: أريدُ أن أُجرّب متعة أن أكتب وروح القُدس معي! (٣) ثمّ إنهم قالوا لي: صوتُ فيروز هو نافذة الصّباح فكُن "كيوت" وابدأ نهارك به! وبعد مدّةٍ سألوني: كيف أنتَ وصوتُ فيروز؟ فقلتُ لهم: إنّ صوت فيروز مقارنةً بصوت ماهر المعيقلي لا يعدو كونه مواءً! (٤) وقالوا لي: اقرأ درويش في كافيتريا الجامعة.. واحتسِ مع الديوان فنجان قهوة، فالشّاي من خوارم الثقافة! فقرأتُ درويش، وشربتُ القهوة وفي الليل أمسكتُ مدارج السالكين واعتذرتُ من ابن القيّم قالوا لي: اقرأْ لبوشكين، فقرأته، وأحببتُ المتنبي أكثر وقالوا: اقرأْ لماركيز مئة عام من العزلة فقرأتها واكتشفتُ أنّ العزلة في ترك تفسير ابن كثير! وقالوا: اقرأ الأمير لميكافيللي وتعلّم السياسة فقرأته، وقلتُ لهم: اقرأوا سير أعلام النبلاء للذّهبيّ وتعلموا الأخلاق! وعندما سألوني: أقرأتَ الخيميائي لباولو كويلو؟ قلتُ لهم: شغلني عنه محمد قطب! (٥) وقالوا لي: استخدمْ عطراً فرنسياً، وضَعْ مُرطّباً لبشرتك، كي تبدو جميلاً عندما تكبر فقلتُ: جدّتي تجاوزت السّبعين وبشرتها جميلة فسألوني بدهشة: ماذا تستخدم؟ قلتُ لهم: تتوضأُ في اليوم عشرين مرّة! (٦) وقالوا لي: اتخذْ صديقاً في الجامعة غير نفسك! وكانوا لي من النّاصحين فاتخذتُ صديقاً نصرانياً، كان مؤدباً كأنه سورة الحجرات، نقيّ كأنه ماء وضوء! ولكننا نهاية المطاف افترقنا لأننا في عقلينا لم نلتقِ كان يُحدّثني أنّ الله أرسل ابنه ليُصلبَ ويغفر لنا وكنتُ أُحدّثه أنّ الله إذا أراد أن يغفر لا يحتاج إلى ذريعة! ناهيك أن يتّخذ ولداً! كان يُحدّثني عن الأقانيم الثلاثة الأب والابن والروح القُدس فلا يحضرني إلا صوت بلالٍ يُكوى على رمل مكّة: أحدٌ أحد! كان صريحاً جداً معي، وكنتُ صريحاً جداً معه، لأنّ كلانا كان يعرف أننا نهاية المطاف سنفترق ونحن لا نكون صريحين إلا مع الذين نعرف أننا لن نلتقيهم بعد! كان يحدّثني عن بولس، فأحدّثه عن أبي بكر ويحدّثني عن لوقا، فأحدّثه عن عُمر ويحدّثني أنّ من صفعكَ على خدّك الأيمن فأدِرْ له خدّك الأيسر فأحدّثه عن اذهبوا فأنتم الطلقاء، وأخبره أنّ العفو عند المقدرة، أما الضعفاء فإن أداروا خدّهم الآخر ازدادوا ذُلاً! كان يُحدّثني كيف نصرَ الله الصليب على وثنيّة الرومان فأحدّثه عن جبريل يركب حصانه حيزوم يوم بدر ويأخذ مكانه في الجيش! فلم يُصدّقني، ولم أُصدّقه وكان يريدني نسخةً منه، وكنتُ أريده نسخة مني، فافترقنا كان صريحاً جداً معي، وكنتُ صريحاً جداً معه، لأنّ كلانا كان يعرف أننا نهاية المطاف سنفترق ونحن لا نكون صريحين إلا مع الذين نعرف أننا لن نلتقيهم بعد! (٧) وقالوا لي مرّةً: لمَ لا تُشبهنا فقلتُ لهم: المتشابهون لا يكترثُ بهم أحد! مضى زمن طويل على هذا أما الآن فقد صرتُ أُشبههم أضع عطراً فرنسياً، ومرطباً للبشرة، وأشرب القهوة في المقهى، وأقرأ لدرويش وكويلو وماركيز تغيّرتُ كثيراً ولكني ما زلتُ أؤمن أنّ النهار الذي لا يبدأ بصوت ماهر المعيقلي هو نهار أعرج!