كيمياء السعادة الرئاسيّة..بقلم:مالك التريكي

الحقائق التي كشفها كتاب بوب وودورد الجديد عن تعمّد ترامب الكذب على الشعب الأمريكي بشأن خطورة وباء كوفيد (حيث اعترف في تصريحات مسجلة بأنه تقصّد التهوين من شأن الوباء والتقليل من خطره) حقائق خطيرة سياسيا.
وقد يتبين بعد شهرين أنها ستكون أخطر انتخابيا، أي أنه ربما يكون لها قدر من التأثير في تحديد نتيجة الانتخابات الرئاسية ـ ولو أن التفاؤل غير مبرر لأن ذاكرة الشعوب ضعيفة وذاكرة الأمريكيين أضعف. وهذا هو المعتاد مع كل كتاب جديد لوودورد: مئات الصفحات. ومعلومة أو معلومتان مثيرتان. وترويج إعلامي مضمون النجاح بفضل نجومية الاسم.
أما من حيث الجوهر، فإنه ليس من جديد في كتاب وودورد الجديد، باستثناء دوران رحى الكذب الترامبي هذه المرة حول قطب كوفيد. ذلك أن حقيقة الكذب الترامبي قد تجاوزت طور الحاجة للبرهنة والإثبات منذ أن تراكمت أدلتها وصارت معلومة للمتابعين. بل إنها اليوم حقيقة مفهومة حتى لغير المتابعين لأن معظم سكان هذا الكوكب قد تكونت لديهم صورة واضحة عن المعدن الحقيقي لهذا النموذج البشري العجيب القافز رأسا من فضائحية سلطة «تلفزيون الواقع» إلى غرائبية سلطة الأمر الواقع.
ولهذا يجدر التذكير بأنه سبق لصحافيّي الواشنطن بوست فيليب روكر وكارول ليونغ أن أصدرا قبل أشهر كتابا حافلا بالحقائق الموثقة عن إيغال ترامب في متاهات الكذب الفاقع وعما يعبر عنه أحد من عملوا معه بـ«عدم اكتراثه بأي من المبادئ التي تقوم عليها المؤسسات الأمريكية وازدرائه التام للفارق بين الصحة والخطأ وبين الحق والباطل».
والكتاب بعنوان «عبقري سليم المدارك». وهذه عبارة من عنديّات ترامب استخدمها مرارا في تغريداته التويترية للرد على الموظفين الفدراليين أو المساعدين السابقين الذين كشفوا جميعهم أنه محدود القدرات الذهنية، ومضى بعضهم إلى حد التأكيد أن به كثيرا من أعراض الاختلال العقلي. وهي من أخوات عبارته الشهيرة «أنباء زائفة» التي دأب على الرد بها على أي حقيقة خفية تعلن بشأنه. ولأنه بافلوفيّ الذهن والسلوك، فقد رددها مجددا بشأن ما نقله عنه بوب وودورد من تصريحات.

إيغال ترامب في متاهات الكذب الفاقع وعما يعبر عنه أحد من عملوا معه بـ«عدم اكتراثه بأي من المبادئ التي تقوم عليها المؤسسات الأمريكية وازدرائه التام للفارق بين الصحة والخطأ وبين الحق والباطل»

ولكن الفضيحة الحالية أشنع من جميع الفضائح السابقة لأنه يبدو أنه نسي هذه المرة أن التصريحات مسجلة! حيث أن سوريالية المشهد كانت مدهشة لمّا عمدت الإذاعات والتلفزيونات إلى بث التسجيلات، بصوت ترامب المعروف للبشرية، لتعقبها مباشرة بمعزوفته البافلوفية: أنباء زائفة! هذا مع لزوم التذكّر بأن ترامب لا يمكن أن ينطبق عليه أي معنى من معاني الفضيحة. فهو مستعص، بل ممتنع، على الانفضاح لأنه كائن متنعّم بسعادة عدم التفريق بين الصدق والكذب ومتخدّر بحرية التحليق في ما هو أبعد من العيب والحياء أو «أبعد من الخير والشر» حسب تعبير نيتشه الذي كانت له قصة من طراز آخر مع العبقرية وسلامة المدارك.
وقد أنتج الصحافيون الاستقصائيون عددا معتبرا من الوثائقيات التلفزيونية التي بينت أن هذا الرجل الذي يسارع إلى وصف أي حقيقة تتكشّف بشأنه بأنها مجرد «أنباء زائفة» إنما هو ذاته كيان زائف! فقد نهضت كل حياة ترامب المهنية، كما قال الصحافي كريغ أونغر، على الفساد والتعاون مع شبكات الجريمة المنظمة، وخصوصا المافيا النيويوركية ومحميّتها المافيا الروسية الناشطة في أمريكا منذ ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، والتي أثبتت الأدلة أنها فرع من جهاز الاستخبارات الروسية. فكيف لمن بنى امبراطوريته العقارية بالفساد أن يمارس الحكم بطريقة أخرى غير الفساد.
أما الصحافي مايكل إسيكوف فقد أوجز الحكاية في ملاحظة وحيدة: فيم كل هذا الاحترام والتوقير اللذين يبديهما ترامب لبوتين؟ علما أنه لما سئل بوتين في واشنطن عن التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية، انبرى ترامب للإجابة بأن بوتين أكد له عدم حدوث ذلك، وأردف متسائلا: ما هي مصلحة روسيا في الأمر؟ هذا قبل أن نعلم أن ترامب بذل كل ما وسعه من وسائل العرقلة والتخويف لمنع استمرار التحقيق في وقائع هذه التدخلات الروسية وفي مخاطر الجماعات العنصرية الأمريكية. ولهذا فإن تمارين الحياد والموضوعية التي يحاول بعض المحللين العرب ممارستها على حساب ذكاء الجمهور كلما تعلق الأمر بفساد ترامب وتحلّله من جميع القيم إنما تماثل في بؤسها وعبثيتها تمارين الموضوعية التي يمارسها أنصار موسكو كلما تعلق الأمر بعمليات الاغتيال والتسميم التي لا تصيب إلا المعارضين لنظام بوتين دون سواهم، وصولا إلى أحدثهم ألكساي نافالني. فقد طال مسلسل الانتقام البوتيني وتكررت حلقاته وتشابهت، ومع ذلك فإن جماعة الموضوعية لا يزالون مسترسلين في تحيزهم للغربال ضد الشمس.