غرائب وعجائب الانتخابات الأميركية...بقلم: عبد المجيد سويلم
غرائب وعجائب الانتخابات الأميركية...بقلم: عبد المجيد سويلم

غرائب وعجائب الانتخابات الأميركية...بقلم: عبد المجيد سويلم

سأبدأ بطريقة غير مألوفة في عالم المقال السياسي لأقول:
الرئيس ترامب وعلى عكس ما تفوّه به بأنه لن يعلن «فوزه»، إلا انه اعلن هذا «الفوز».
ليس هذا فقط وإنما استبق تصويت الولايات المتبقية بالإعلان عن تقدمه فيها، وفي إشارة لدعم ادعائه بالفوز، العجيب والغريب، وأنه ما زال يصرّ أن الحزب الديمقراطي يعمل من خلال تأخير إعلان النتائج على تزييف هذه (النتائج وسرقتها)، وان هذا هو السبب الذي يقف وراء هذا التأخير.
ثم يتابع، إنه سيذهب إلى المحكمة العليا!
ناهيكم طبعاً عن الطريقة الاستعراضية التي دعا بها نائبه على المنصّة لتأكيد «الفوز» الضمني المفضوح. كل ذلك قام به وأعلنه بالرغم من ان جو بايدن سبقه الى منصة الخطاب في مسقط رأسه، دون إعلان او تبجح، محذراً من «إعلانات» ترامب التي كان الحزب الديمقراطي يتوقعها، بل ومتأكد من حتمية الإقدام عليها.
ومع أن التأخير ليس بدعةً من بدع الحزب الديمقراطي، والقرار بها يعود لحكام الولايات، وهي ليست سابقة خاصة بأي حال من الأحوال.
سؤال المحكمة العليا مثير للريبة والشك، والاتهامات بالتزوير والسرقة على الهواء مباشرةً لا يمكن تفسيرها إلا كاستباق «مبكر» للنتائج الفعلية إذا جاءت في غير صالحه، لوضع هذه النتائج في يد المحكمة التي تخضع لهيمنته المؤكدة، في محاولة للتمرد على مبدأ تسليم السلطة كمرحلة أولى، وتمهيداً لفرض إعادتها إليه مهما كلف الثمن، وصولا الى ما هو أبعد من الفوضى، وأخطر منها عند درجة معينة من استفحالها.
قلت إنني سأبدأ بداية غير مألوفة لأن التناقض في خطابه أوضح من الشمس نفسها.
فإذا كان الرئيس يعتبر نفسه فائزاً، فما هي حاجته للاتهامات بالسرقة والتزوير؟، وإذا كان متأكداً بالأرقام أنه سيفوز بالولايات المتبقية فما هي حاجته إلى المحكمة العليا؟
وإذا كان سيلجأ للمحكمة لحماية «فوزه» كما يقول، فهل جرت العادة في الولايات المتحدة أو في أي دولة ديمقراطية أصيلة الذهاب إلى المحكمة العليا قبل ظهور النتائج، وقبل أن يعلن حكام الولايات تلك النتائج كما ينص الدستور الأميركي وليس دستور الحزب الديمقراطي؟
ثم ما هي التهمة التي سيذهب بها إلى المحكمة، وهل لديه او لدى الإدارة الأميركية او الحزب الجمهوري شيء من كل هذا القبيل؟
الجواب لا. ومع ذلك تم الاتهام دون أدلة أو معطيات، وتم «الإعلان» عن الفوز دون انتظار إعلانات رسمية من قبل من هم أصحاب التخويل الحصري بهذه الإعلانات من ناحية نصوص دستورية فاقعة.
لماذا تم ويتم ذلك؟
الجواب هو أن الرئيس ترامب يعرف بأنه يمكن أن ينجح ـ وهو فعلاً كذلك، لأن لا أحد يستطيع أن يجزم بعكس لك، ولكنه بالمقابل يمكن أن يخسر الانتخابات بالرغم من كل ما ادعاه وما أشار إليه وأعلنه.
ولهذا كله فإن ترامب والذي على ما يبدو قد أعدّ عدّته لمثل هذا الاحتمال، بأن فرض ثلاثة قضاة في المحكمة العليا منذ توليه الرئاسة، وأبعد أعضاء من مجلس الشيوخ ممن انتقدوا سياساته مباشرةً، تماماً كما أبعد واستبعد اكثر من ثلاثين مستشاراً «ووزيراً»، ومن في حكمهم، وأجبرهم على الاستقالة، أو حول حياتهم في مناصبهم إلى ما لا يمكن تحمّله.
فهو لم يمارس الابتزاز ضد خصومه الديمقراطيين، وإنما ضد أقرب المقربين إليه عندما حاولوا أن يتصرفوا وفق مصالح الدولة العليا، وليس وفق أهوائه ونزواته، وأهدافه النابعة من منظومته الفكرية، ومن حقيقة سياساته، ومن تأثير كل ذلك على هيبة الحكم والرئاسة والأداء السلوكي الخارج عن كل ما يمكن أن يصنف بالمألوف على هذا الصعيد.
من هنا، فإن هذه الانتخابات الغريبة والعجيبة ستدخل الولايات المتحدة في أزمة ذات طابع «دستوري» وقضائي، وسرعان ما ستنتقل الى الشارع الأميركي، خصوصا إذا ما كانت نتيجة هذه الانتخابات في مصلحة المرشح جو بايدن، في حين ان الإمكانية الوحيدة ـ ولكنها ليست المضمونة ـ لتفادي هذا الانزلاق الى هاوية كهذه، تهدد السلم الاجتماعي في الولايات المتحدة، وقد تكون لها عواقب أكبر بكثير مما يلوح في الأفق المرئي حتى الآن، هي ان ينجح ترامب بأية وسيلة. والحقيقة أن حدة الاستقطاب تحولت على يد ترامب وفي عهده إلى تهديد كبير وخطير على السلم الأهلي والاجتماعي، وهو ما بدأ يثير المخاوف لدى حلفاء الولايات المتحدة.
شخصيات أوروبية وازنة باتت تتحدث عن خطر انزلاق الولايات المتحدة الى مرحلة من شأنها تهديد الاستقرار في هذه الدولة العظمى، إضافةً إلى أن كل خصوم وأعداء الولايات المتحدة يقفون في هذه اللحظات على رجل واحدة.
ليس أمراً عادياً ولا هو مجرد حدث صعب، لأن الأمر يتعلق بأزمة قد تغير الكثير في بلدان وشعوب كثيرة في هذا العالم، ولن يكون ممكنا استعادة السلم والهدوء إلا بعد عدة أسابيع، إذا لم نقل عدة شهور.
وإذا لم تحل الأزمة قبل موعد تنصيب الرئيس، وإذا كانت الأحداث الى حينه قد تطورت إلى أشكال عنيفة، أو صدامات «شعبية» كبيرة، فإن الأزمة مرشحة لتدخل الحرس الوطني والجيش، إضافة إلى المؤسسات الدستورية صاحبة الاختصاص والصلاحيات.
وإذا ما تفاقمت الأمور وصولاً إلى هذه الصدامات، وفي ظل الأعداد الهائلة من إصابات الوباء، وفي ظل تردي الأحوال الاقتصادية في الولايات المتحدة، وإذا ما أصيبت المزيد من القطاعات الاقتصادية بالشلل الجديد أو الانهيار فإن الأزمة ستدخل طورا جديدا قد يؤثر على تماسك وحدة البلاد.
عندما كتبنا ان شخصية الرئيس ترامب هي شخصية غرائبية ومتهورة، وانه لن يتورع مطلقاً عن التمرد على المؤسسات الدستورية، وانه ربما قد جهز نفسه لهذا اليوم جيداً فإننا كغيرنا كنا نقرأ في هذه الشخصية تعبيراً عن حالة سياسية وفكرية وثقافية واقتصادية واجتماعية كانت وما زالت تكمن في البنية الأميركية في كل المجالات وعلى مختلف المستويات.
ستنزوي الولايات المتحدة إذا لم يتم تدارك هذا المأزق الكبير، وستتقوقع على نفسها، وتتصدى لأكبر أزمة تشهدها منذ عشرات السنين، إذا لم نقل منذ قرون، وستحتاج البلاد إلى حكمة الحكماء، وإلى أعلى درجات المسؤولية لمعاجلة ما أصابها من عطب ومن شيخوخة في نظامها السياسي، وفي آليات الوصول إلى السلطة، وفي طبيعة النظام الرئاسي فيها، وصلاحيات المؤسسات المكونة لكامل النظام السياسي، وخصوصاً في نظام الانتخاب.
بايدن ليس من بقية أهلنا، وليس صديقاً مقرباً من شعبنا، ولكن الموقف الموضوعي يقتضي ان تكون نظرتنا لهذه الأزمة جزءاً من عقيدتنا الإنسانية المتسامحة.
فنحن لا نتمنى للشعب الأميركي سوى دوام الاستقرار والرفعة والازدهار، ونأمل ألا تنزلق البلاد إلى أتون صراعات لن يدفع ثمنها سوى عامة الناس، وفقراء هؤلاء الناس قبل أي طرف آخر، على الرغم من كل الأذى الذي ألحقته الولايات المتحدة بشعبنا وحقوقه وقضيته العادلة.