طلال.jpg
طلال.jpg

القدس تقرر

تجاوزت حكومة المستوطنين الجديدة الفخ الأول الذي وضعه في طريقها رئيس الحكومة البائدة بنيامين نتنياهو، دون ان يقع الانفجار الذي توقعته أوساط كثيرة، نتنياهو بالتأكيد ليس مسرورا لما جرى مساء يوم الثلاثاء المنصرم، حيث جرت مسيرة الأعلام دون ردود فعل مؤثرة على استقرار الحكومة بعد يومين من حصولها على الثقة من الكنيست. رغم ذلك فإن من المرجح ان يخضع أداء الحكومة الجديدة لحملة تحريضية من قبل نتنياهو وفريقه بسبب ضعف ومحدودية المشاركين من المستوطنين في المسيرة.
وفق ما نقلته شاشات الفضائيات، فإن المسيرة كانت في الظاهر للقوات الحكومية التي حشدتها وزارة الداخلية لحماية المسيرة، وضمان منع احتكاك المشاركين مع الفلسطينيين كما أراد وزير الدفاع بيني غانتس.
الشرطة جندت ألفي شرطي، وعددا من حرس الحدود والخيالة ما يفوق كثيرا أعداد المشاركين الذين لم يتجاوزوا المئات وبعد ان قامت الشرطة بجملة إجراءات استباقية لضمان امنهم.
قبل ذلك كانت الشرطة قد منعت توجه عديد الحافلات التي تنقل الفلسطينيين المتوجهين نحو القدس، وقامت باستخدام القمع لإخلاء منطقة باب العامود من الشبان الفلسطينيين، ووضعت الكثير من الحواجز المعدنية والإسمنتية، وبالإضافة فإن من صادقوا على إقامة المسيرة، اجروا تغييرا على مسارها، بحيث يمكن إبعادها عن مناطق الاحتكاك، وهي في العادة تنتهي الى الحرم القدسي وهو الأمر الذي لم يقع هذه المرة.
إذا كانت هذه المسيرة التي اعتاد عليها المستوطنون منذ سنوات طويلة ترمز الى تمسك إسرائيل بالسيادة على القدس، فإن حجم المشاركة وطبيعة الإجراءات، والتغييرات التي وقعت على مسارها تشير الى أن هذه الرمزية، بدت في اضعف أحوالها. هل كان هذا التحول دون ثمن قدمته المقاومة الفلسطينية، وقدمه المقدسيون والشعب الفلسطيني في الضفة وأراضي العام ١٩٤٨.
واضح ان حكومة المستوطنين، بالرغم من تطرفها الشديد، الذي لا يقلل منه وجود بعض المساحيق المنسوبة لليسار، إلا أنها لا ترغب في الدخول في مغامرة عسكرية قد تندلع مع المقاومة، او ان تستنفر الفلسطينيين في الضفة الغربية او الداخل الفلسطيني.
الحسابات الإسرائيلية الرسمية، لا تقف عند حدود ما تهدد به فصائل المقاومة في غزة، فهذه جبهة من ثلاث جبهات فلسطينية، كلها قابلة للانفجار، وتعميق أزمة النظام السياسي الإسرائيلي.
المناخ العام، الذي ساد الأوضاع قبل وأثناء انطلاق مسيرة الأعلام يشير الى انتصار الفلسطينيين في معركة الوعي، فلقد اتسم الخطاب الرسمي الإسرائيلي بالخوف والضعف والتردد، ظهرت هذه المخاوف عمليا حين أقدمت إسرائيل على إعادة نشر القبة الحديدية في محيط قطاع غزة، وحين أوقفت حركة الطيران من والى مطار بن غوريون أثناء المسيرة، أما في الداخل الفلسطيني فقد عززت الشرطة من وجودها في المدن المختلطة، تحسباً لاندلاع مواجهات بين العرب واليهود، هذا بالإضافة الى إجراءاتها الاستثنائية في القدس. لعل تحذير الولايات المتحدة رعاياها بمغادرة القدس بمن في ذلك موظفوها، يقدم دليلا آخر على طبيعة المخاوف التي تسود الأوساط السياسية والاجتماعية في إسرائيل.
انتهاء المسيرة، بهذا القدر من المعتقلين والمصابين بين صفوف الفلسطينيين، لا يعني إطلاقا ان المشهد الفلسطيني الإسرائيلي مرشح لأن يشهد هدوءا خلال المرحلة الراهنة او المقبلة.
القدس أصبحت تختزل الصراع وتشكل بؤرته المعيارية بالنسبة للسياسة الإسرائيلية، وأيضا بالنسبة للفلسطينيين على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، وهي التي ستحدد اتجاهات الأحداث اللاحقة.
لم تعد إسرائيل لاعباً بلا كوابح في القدس، وثمة من يقف لها بالمرصاد، فإن كانت لن تتراجع عن سياساتها، وهي لن تفعل، فإن ذلك سيكون مدعاة لتفجر الصراع على فترات متقاربة. الإدارة الأميركية تعاملت مع المسيرة والأحداث المرافقة لها، وكأنها حدث داخلي، ولكنها على الأرجح كانت قد أجرت جملة من الاتصالات مع الأطراف الفاعلة، لضمان عدم انفجار الأوضاع، وفي حين تخوف الفلسطينيون في قطاع غزة من اندلاع موجة جديدة من العدوان ستكون قاسية، بينما هم لم يلملموا جراحهم بعد فإن فصائل المقاومة عبرت عن شراكتها مع المقدسيين من خلال إعادة تنشيط وسائل الإرباك الليلي، حيث اندلع اكثر من عشرين حريقا في اليوم الذي جرت فيه المسيرة.
وبرأينا فإنه يمكن وصف المرحلة بأنها محكومة لآليات التوتر والتصعيد إذ لا إمكانية للهدوء في القدس، ما يعني ان لا هدوء في غزة، ولا في الضفة او في الداخل الفلسطيني. ومع هذه الحكومة الضعيفة وفي ظل استمرار وتفاقم أزمة الحكم في إسرائيل، فإن ثمة صواعق أخرى تتصل بالحصار على غزة، وملفات إعادة الإعمار، وتبادل الأسرى وتنصل إسرائيل من التفاهمات السابقة، ملفات معقدة من الممكن ان تحول او تؤخر إمكانية فتح المسار السياسي، الذي تحاول إسرائيل تجنبه.
بقي ان نحيي السيدة الفلسطينية التي فاجأت المستوطنين والشرطة حين خرجت من وسط المسيرة وهي تحمل العلم الفلسطيني، رغم علمها بأنها ستتعرض للقمع.