عبد الغني سلامة.jpg
عبد الغني سلامة.jpg

تطوير أشكال المقاومة

بداية، لا بد من التأكيد على أن هدف الكفاح الفلسطيني هو إبقاء جذوة الصراع متقدة، والحفاظ على القضية من الطي في ملفات النسيان، وتعبئة الأجيال على روح المقاومة، وإعادة ثقة الشعب بنفسه واحترام العالم له، وإشغال العدو وحرمانه من الاستقرار، وإسقاط وتعطيل كافة مشاريع التسوية التي تنتقص من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.. بمعنى آخر فإن الكفاح الفلسطيني هو استثمار لقوة الضعف التي يمتلكها الطرف الفلسطيني، واستخدام لقوة الرفض، فإذا كان الفلسطينيون غير قادرين على فرض الحل الذي يريدونه فإنهم يستطيعون رفض الحل الذي لا يريدونه، فلا يتوهمن أحدٌ بأن الكفاح المسلح الفلسطيني بإمكاناته المحدودة جدا سيقضي على إسرائيل، لأن القضاء على إسرائيل يتطلب تضافر الجهود العربية العسكرية والسياسية والاقتصادية والبشرية، وتوظيفها في معركة التحرير، وخلق توازنات دولية تكون قادرة على تغيير المعادلة السياسية برمتها، ومن البديهي أن هذه الشروط غير متحققة الآن، ولا يبدو في الأفق أنها ستتحقق قريبا.
إذاً، من الحكمة أنه كما على الفلسطيني استثمار قوة الضعف، فإنه يتوجب العمل على تعزيز ضعف القوة الذي يميز إسرائيل، حيث إنها لن تتمكن من استخدام ترسانتها العسكرية في مواجهة شعب أعزل يطالب بحقوقه، أي العمل على جر العدو إلى الساحة التي يكون فيها ضعيفا، وعدم الاستجابة لاستفزازاته التي تعمل على جر الفلسطيني إلى ساحة المواجهة العسكرية، التي يمتلك أدواتها بالكامل، ويتحكم بها بشكل مطلق.
ولو تتبعنا مسار الأحداث في العقود الأخيرة، لوجدنا كيف كانت إسرائيل تفتعل الأحداث في كل مرة لجر المنطقة إلى دائرة العنف، وأن هذا الأمر أكسبها الكثير من التعاطف الدولي (خاصة بسبب قدرات الإعلام الصهيوني)، ومنعَ تناقضاتها الداخلية من الظهور إلى السطح لتفعل فعلها في مصير الدولة، وأعطاها المبررات للتهرب من استحقاقات العملية السلمية التي تستخدمها كغلاف لتجميل صورتها، والتمويه على طبيعتها الإمبريالية.
وطالما أن الشعب الفلسطيني يخوض حربا سياسية طويلة الأمد لا يستطيع حسمها وفق المعطيات الحالية بالضربة القاضية، وبالتالي ينبغي عليه العمل على كسبها بالنقاط، حيث إن إمكانية تسجيل ضربات موجعة للمشروع الصهيوني بالوسائل السياسية والدبلوماسية والمقاومة الشعبية أكثر بكثير من قدرته على إلحاق خسائر حقيقية به بالوسائل العسكرية فقط.
وحتى نمارس المقاومة بشكلها الصحيح، يتوجب معالجة الأخطاء التي وقعنا بها سابقا، وما زلنا نمارسها: الخطأ الأول حشر المقاومة في قالب واحد محدد (المقاومة العسكرية)، ثم مصادرة كافة التعبيرات والأساليب الأخرى وإظهارها كما لو أنها نوع من الخنوع أو الاستسلام! والخطأ الثاني تجاوز الدور الوظيفي للمقاومة المتمثل أساسا في مواجهة الظلم والاحتلال والعمل على إزالته، والكفاح من أجل الحرية والحياة الكريمة، لأنَّ هدف المقاومة أولاً هو الحياة لا الموت، والبناء لا الهدم. والمقاومة تفقد كل معنى عندما تصبح هدفا بحد ذاته، وحين لا يكون الإنسان وكرامته وحياته غايتها ومنطلقها.
ومع أن المقاومة الشعبية هي الخيار الوحيد والصحيح أمام الفلسطينيين، إلا أن هذا الشكل أيضا مورست فيه أخطاء كثيرة، ربما أكثرها يعود إلى الانتفاضة الأولى، وكان الراحل فيصل الحسيني، أول من أشار إلى تلك الأخطاء، وانتقدها بشجاعة.
على سبيل المثال، من المفترض أن تكون المقاومة الشعبية سلمية، لكنها كانت تتحول في مرات عديدة إلى أشكال عنيفة، تفقدها طابعها السلمي والمدني، كما حصل مثلا في مسيرات العودة على حدود قطاع غزة، فخسرنا عشرات الشبان بين شهيد ومعاق، دون تحقيق نتائج سياسية، ولأنها لم تترافق مع خطاب إعلامي ناضج.
ومن الأشكال الأخرى التي بحاجة إلى مراجعة ونقد إشعال إطارات الكاوتشوك، والتي في أغلب الأحيان لا ينتج عنها سوى تلويث البيئة، وتهديد الصحة العامة.. وكذلك موضوع الإضرابات، والتي تبين أنها تضر بالجانب الفلسطيني أكثر مما تفيده، وبدلا من الإضراب الشامل، الذي يشل الحياة، ويتسبب بخسائر اقتصادية ليكن إضرابا جزئيا، ولمدة ساعتين مثلا.. مع استثناء المدارس من كافة أشكال الإضرابات.
فالتحدي الأهم أمام المقاومة الشعبية قدرتها على مواءمة أشكال النضال مع مسارات الحياة المدنية، بحيث لا تتعطل المسيرة التعليمية، ولا تنقطع الخدمات الصحية وغيرها، ولا تتعطل عمليات التنمية والبناء، ولا تتوقف أشكال الحياة الطبيعية، لأن ذلك من أهم مقومات الصمود والاستمرار.
وكذلك مراجعة موضوع الشعارات والهتافات، وعدم السماح لشخص أو لمجموعة أشخاص بتحويل هتافات وشعارات المسيرة إلى هتافات حزبية، وفي إطار المناكفات السياسية، وبالتالي حرف البوصلة.. كما يتوجب تنحية رايات الفصائل جانبا، والاكتفاء برفع العلم الفلسطيني فقط.
بالنسبة للعمليات الفردية.. فهي رد فعل طبيعي على الاحتلال وجرائمه، أهميتها أنها تعيد إحياء القضية الفلسطينية إعلاميا، وتذكّر العالم بوجود احتلال، وشعب يتعرض للظلم، وأن هذا الشعب لم يتوقف عن ممارسة حقه في المقاومة، وتؤكد بوضوح أن ما يسمى سلام أبراهام، ومحاولات إسرائيل جر الدول العربية للتطبيع والمؤتمرات المشتركة التي تعقدها ما هي إلا محض أوهام إسرائيلية، ولن يكون بمقدورها تغيير شيء في واقع الصراع، ولن تنجح في تغييب الشعب الفلسطيني ولا بهزيمته.
ولكن، على أن تكون عمليات مدروسة، من حيث الأهداف والتوقيت والأسلوب، فبعض العمليات كانت ذات طابع داعشي وعشوائية، خاصة تلك التي تستهدف مدنيين.
أما عمليات الطعن الفردية فهي في أكثر الحالات عمليات انتحارية دون أي مقابل، فأغلب المنفذين فتية في مطلع العمر، لم يتلقوا أي تدريب، يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع جنود مدربين، ومدججين بالسلاح، ولديهم أوامر بالقتل، دون أن يرف لهم جفن، ودون تبعات لجرائمهم، وفوق ذلك تستغل ماكينة الإعلام الصهيونية هذه العمليات للتحريض على الفلسطينيين.
وبالنسبة للموقف الدولي؛ من الخطأ انتظار حصول تغيير كبير وسريع فيه، وهبّة العالم لنجدتنا.. فمثل تحول هكذا يحتاج نضالا طويلا جدا.. فالحركة الصهيونية بكل إمكانياتها، ومع كل التأييد الذي حظيت به من قبل أوروبا وأميركا احتاجت خمسين سنة حتى تبني كيانها.. وما زالت تعتمد في بقائها على تأييد الدول الكبرى لها.. ونحن كفلسطينيين، وإزاء هذه المعادلة المختلة أمامنا درب طويل وشائك.