استنتاجان من البرامج الوثائقية
استنتاجان من البرامج الوثائقية

استنتاجان من البرامج الوثائقية

مشاهدة البرامج الوثائقية، خاصة العلمية منها، من أول اهتماماتي الشخصية، وأكثرها إمتاعا، وقد أغنت حصيلتي المعرفية بشكل جيد، ويمكن استنتاج الكثير من العبر والمعلومات والمعارف منها، وهنا أرغب بمشاركتكم ملاحظتين، الأولى: ظاهرة الحركة المنظمة للحيوانات التي تعيش بأعداد ضخمة، والثانية: الدور الخفي للمصورين.
تعيش بعض الكائنات الحية في الطبيعة فرادى مثل القطط، التي ما أن تكبر قليلاً حتى تنفصل عن أمهاتها، أو كزوجين فقط (أغلب أنواع الطيور)، أو ضمن عائلات صغيرة (الفهد مثلاً)، أو عائلات ممتدة (الأسود والذئاب وغيرها).. وبعضها تعيش ضمن أسراب كبيرة جداً، مثل الفراشات، الوطاويط، حيوان النو، عصافير الزرارير، الطيور المهاجرة، أسماك الرنجة والسلمون.   
المثير في «حيوانات السرب» سلوكها المنظم أثناء حركتها وهجراتها السنوية، بالرغم من أعدادها الضخمة، ومن تعرضها لمخاطر عديدة أثناء تنقلها؛ فمثلا قد يضم سرب واحد من حيوان «النو» أكثر من مليون حيوان، وهذه تسير ضمن هجرة سنوية تمتد لآلاف الأميال للوصول إلى مناطق الغذاء الوفير، ورغم كبر حجمها (أضخم من الغزال، وأصغر من الثور)، وسرعتها الكبيرة، إلا أنها لا تصطدم ببعضها البعض، حتى أثناء تعرضها لهجمات الأسود والضباع.. السرب الواحد من عصافير الزرارير، أو أسماك الرنجة يبلغ مئات الآلاف وقد يتجاوز المليون، وتتحرك بسرعة شديدة، الوطاويط قد تصل أعدادها إلى عشرين مليونا في كهف واحد، ورغم ذلك لا تصطدم ببعضها.
يفسر العلماء هذه الظاهرة بما سموه «ذكاء السرب»، فتلك المخلوقات تتبع قوانين معينة أثناء تحركها: لا تبتعد عن جارك كثيراً، لا تقترب منه أكثر من اللازم، إذا تحرك جارك نحو جهة ما اتبعه.. وهكذا تظل في أمان رغم التزاحم الشديد.. أي أن «عقلية السرب» منحتها ذكاء فطريا جماعيا، بالرغم من أن كل واحد منها على المستوى الفردي لا يمكن وصفه بالذكي..
لماذا لا نجد مثل هذا السلوك عند البشر؟ رغم أن الإنسان على المستويين الفردي والجماعي يُعد أذكى المخلوقات!
في التجمعات البشرية الكبيرة حيث تحتشد أعداد هائلة من الناس في مكان واحد، كثيراً ما تقع حوادث تزاحم وفوضى شديدة تؤدي إلى مقتل العشرات والمئات، وإصابة أضعافهم بجروح، كما حدث في مرات عديدة أثناء حشود مباريات كرة القدم، وفي مواسم الحج، أو أثناء تعرض الحشود لخطر خارجي، مثل قمع الشرطة لمسيرة، أو عند وقوع كارثة طبيعية.. وحتى عند التزاحم على مدخل محل تجاري كبير، وبأعداد قليلة نسبيا، وربما تزاحم بضع عشرات أمام مخبز، حين يتعرضون لتهديد خارجي يحصل التدافع، وأحيانا يدوسون على الأشخاص الأضعف، ما يؤدي إلى وقوع إصابات وقتلى!
تمارس حيوانات السرب هجراتها وتحركاتها بهذا الأسلوب منذ ملايين السنين، وفي كل مرة تتعرض لأخطار وتهديدات جسيمة، ما مكّنها من تطوير آليات مناسبة للتحرك بانتظام، دون وقوع إصابات.. في حين أنّ الإنسان لم يخضع أثناء مسيرته التاريخية لهذا المسار، فالتجمعات البشرية كانت في الزمن القديم دوما قليلة العدد، بأعداد تتراوح بين العشرين والمائة.. وبعد أن ازدادت أعداد البشر وبأرقام كبيرة جدا ظلت التجمعات السكانية متباعدة نسبيا، وكل شخص يتمتع بقدر من الفردانية.
وفي العصور الحديثة احتاج الإنسان لتنظيم الحشود الكبيرة، كما هو الحال في الجيوش، أو أثناء الاحتفالات الشعبية، والمناسبات الدينية، أو لتقديم عروض معينة.. فاستخدم ذكاءه وعلومه لتنظيم وترتيب تلك الحشود.. فهؤلاء خضعوا لتدريبات طويلة، واستمعوا لتعليمات محددة حتى أمكنهم تنظيم الحشود وبدقة متناهية.. ولكن عند تشكل الحشود بطريقة عفوية وغير مخطط لها وبمجرد تعرضها لخطر خارجي يرتد كل فرد إلى بدائيته الأولى، أي يرجع إلى جيناته وذكرياته المخزنة حين كانت حياته بلا ترتيب ولا قوانين ناظمة، فتغلب عليه غرائزه «الحيوانية»، مثل نزعة البقاء، والنجاة، والخوف، فيتصرف دون عقل، ودون تنظيم، وبكل أنانية، فيحصل التدافع وتقع الحوادث.
في الملاحظة الثانية: أثناء مشاهدتنا للأخبار وللبرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية، وخاصة الأفلام الوثائقية، يغيب عن بالنا ما يقوم به فريق التصوير.
فمثلا، في تصفيات الأولمبياد النهائية وأثناء تغطية سباق الجري، كان الرياضيون يركضون بأقصى سرعة لديهم للفوز باللقب، وكان على يمين المضمار مصور يتابعهم، ويركض مثلهم، وبنفس السرعة، حتى أنه تجاوزهم.. في النهاية فاز الرياضي الأول بالميدالية الذهبية، ونال المجد والشهرة والتكريم، في حين أن المصور (الذي كان أسرع منه) اكتفى بأجره، ولولا أن مصوراً آخر التقط المشهد لما أدركنا غرابته، وما يحمله من مفارقة مدهشة!
وأيضا، قد لا يعلم أكثرنا أن هذه الساعة التي نستمتع بها في مشاهدة الفيلم الوثائقي، احتاجت سنوات مضنية لإعداده، وبعض اللقطات التي لا تتجاوز اللحظات احتاجت أشهراً طويلة من الرصد والانتظار والصبر في أماكن وظروف صعبة وخطيرة.
وأثناء مشاهدتنا أفلام المغامرات الوثائقية، نشاهد بطلاً محترفاً وهو يتسلق جبلاً شاهقاً، أو رياضياً وهو يقفز من مظلته، ويحلق في الجو مثل النسور، أو مغامرين يدخلون كهفاً ضيقاً ومعتماً تحت الأرض، أو عالماً يطل على جرف بركان يوشك على الانفجار، أو غواصاً يغوص في أعماق البحار المظلمة، ويلتقط ملاحظاته عن سلوك أسماك القرش، أو إطفائياً يكافح ألسنة النيران في غابة محترقة، أو عالماً يراقب الأسود والفهود والفيلة في براري إفريقيا.. مع استمتاعنا بتلك اللقطات، وإعجابنا بشجاعة وقدرات ومواهب من نراهم من رياضيين وعلماء ومغامرين ومستكشفين، ننسى، ولا ننتبه أن وراء كل لقطة فريدة مصور محترف، لا يقل بطولة ولا شجاعة ولا موهبة عن هؤلاء.. وقد تعرض للمخاطر ذاتها، وبذل مجهودات لا تقل عنهم.. الفرق أن هؤلاء نالوا المجد والعرفان والتقدير وحظوا بالمعجبين، بينما المصور ظل جندياً مجهولاً ومتوارياً.
فالمراسل الحربي يظهر على الشاشة وهو يتعرض للقصف والنيران ودوي القنابل شأنه شأن الجنود في الميدان، نرى المراسل، ونشعر معه، ونحس بوجوده، بينما نتجاهل المصور.. وكذلك نتجاهل دور المصور وهو يغطي المسيرات الغاضبة، واشتباكات المتظاهرين مع الجنود، ويتعرض مثلهم للرصاص وقنابل الغاز والتنكيل.. وكثيراً ما سقط منهم قتلى وجرحى.
شكراً لكل من عرّض حياته للخطر، وبذل جهوداً مضنية، وصبر ساعات وأياماً لالتقاط صورة.