عبد الغني سلامة.jpg
عبد الغني سلامة.jpg

بين الهمجية والحضارة

الهمجية أي سلوك بدائي غرائزي وحشي، أو فوضوي، أو غير مهذب ولا مؤنسن، وهي عكس التمدن والحضارة. قد يكون الفرد همجياً ويعيش في مجتمع متحضر، أو يكون المجتمع همجياً لكنّ فيه أشخاصاً متحضرين. ولكن بصورة عامة، بين سلوك الأفراد ومستوى تحضر أو همجية المجتمع علاقة جدلية متبادلة، وما المجتمع إلا انعكاس لصورة أفراده، وأيضاً الفرد نتاج لثقافة مجتمعه.
وقبل أن نميز بين الهمجية والتحضر، يجدر التمييز بين المدنية والحضارة. التمدن هو التطور المادي والمنجزات المتحققة من عمران وبنايات وشوارع وتنظيم ومؤسسات وهياكل واختراعات وتكنولوجيا، أي هو محصلة المنتجات المادية. بينما التحضر هو السلوك، والأخلاق، والمنتجات المعنوية من فكر وفنون وفلسفة وآداب وعلوم، والتي تنظمها القوانين والثقافة والقيم الإنسانية.
ومن الممكن الحكم على مجتمع ما بأنه متحضر أو همجي من خلال رصد سلوكيات أغلبية أفراده، بصرف النظر عما تقوله الإحصاءات والبيانات الرسمية. وحسب ما كتبه الدكتور علاء الأسواني في محاضرته على «يوتيوب» والتي جاءت بعنوان «سبع صفات للمجتمع الهمجي»، يمكن اعتبار المسلكيات التالية دليلاً على همجية المجتمع وبدائيته وتخلفه:
أهم سمة للمجتمع الهمجي نظرته البدائية للمرأة، حيث يتعامل معها  كجسد فقط، ولا يراها سوى أنثى مثيرة، سواء كان الرجل الهمجي متديناً يريد تغطية المرأة تماماً والتمتع بنكاحها (حتى لو كانت طفلة)، أو كان إباحياً يريد تعريتها والتمتع بجسدها دون زواج. فالمرأة، في نظر الرجل الهمجي ليست إنساناً كامل الأهلية، إنها أداة للذة الجنسية ووسيلة غواية ومصنع لإنجاب الأطفال وطباخة وخادمة. الرجل الهمجي يحتقر المرأة بقدر ما يشتهيها، وهو يعتبر الجنس فعل إذلال للمرأة.
في المجتمع الهمجي تختفي شخصية الفرد في إطار القبيلة، أو الطائفة، فيفقد فردانيته واستقلالية فكره وتميزه، ولا يعود مسؤولاً عن أفعاله فقط، بل وأيضاً عمّا يفعله أي فرد من قبيلته أو طائفته. وغالباً تتسم العلاقات بين القبائل والطوائف بالتنافس والشك والعداوة المبطنة، وعندما تقع مشكلة ما تعتدي القبيلة على خصومها بكل وحشية، ويتم نزع الطابع الإنساني عن الضحايا، ويصبحون جميعاً أعداء يجب سحقهم، على مبدأ العقاب الجماعي، ودون اعتراف بالمسئولية الفردية، التي هي أبسط قواعد العدالة.
المجتمع الهمجي لا يعرف سيادة القانون، ولا يطبقه على الجميع. خاصة إذا كان المتهم غنياً، أو له علاقة بالسلطة. فالقانون في المجتمع الهمجي ليس أداة لتحقيق العدل وإنما هو سلاح في يد السلطة، تستعمله للتنكيل بخصومها، وتعطله لينجو أنصارها من العقاب. هذا الاستعمال الانتقائي للقانون سرعان ما ينتقل من السلطة إلى الناس فتتعطل عندهم معايير العدالة والإنسانية، وتشيع بينهم المحسوبية والواسطة والرشوة وتنمر القوي على الضعيف باعتبارها تصرفات عادية ومقبولة.
يتسم المجتمع الهمجي بالفوضى والعنف، الفوضى في غياب التخطيط، وعدم احترام المواعيد، وإهمال قيمة الوقت، والعنف سواء في سلوكه الفردي مع عائلته ومحيطه وحتى تجاه ممتلكاته وأدواته، أو تجاه خصومه خاصة أثناء الصراعات الداخلية، وحتى عندما يريد التعبير عن الفرح والبهجة يلجأ للأساليب العنيفة كإطلاق الأعيرة النارية، والمفرقعات، والسماعات، والضوضاء، وإحداث ضجة كبرى.
والإنسان في المجتمع الهمجي لديه ولع بالعقوبات البدنية، ونزعة انتقام كامنة، وغضب مكتوم، وكراهية تجاه أي شيء مختلف. وهو لا يعرف التسامح، ويطالب بإعدام المذنبين في ميدان عام أو قطع أيديهم وأقدامهم، ليس حباً بالعدالة، بل لتفريغ نزعات الغضب والانتقام الدفينة في داخله. كما أنه يعتبر استعمال العنف مع الخصوم رجولة وشجاعة وبطولة.
في المجتمع الهمجي لا يعرف الفرد السعادة والمتعة إلا في إطار اللذة الحسية، فيختزلها في الأكل والشرب والجنس والمقتنيات المادية والحياة المترفة، كل بحسب إمكانياته، من الطعام الشهي، إلى الملابس، والمجوهرات، والسيارات، والقصور، والمنتجات الاستهلاكية، فلا يجد الهمجي أي سعادة في المطالعة والأدب والفكر، ولا يمكنه حضور حفلة باليه أو أوبرا أو أوركسترا، ولا يستمتع بلوحة فنية، أو ندوة فكرية أو أمسية ثقافية، ولا يسعد بهدية إذا كانت باقة ورد، أو كتاب. بالنسبة للهمجي سعادته فقط في الأغاني الهابطة، أو في الأفلام والمسلسلات التي تعتمد على الإثارة الجنسية والأكشن العنيف، والكوميديا الفجة، حتى لو تضمنت سخرية من ذوي الإعاقة، أو تنمراً على المختلفين.
في المجتمع الهمجي توجد حقيقة واحدة معتمدة دينياً وثقافياً وسياسياً، سواء التي يفرضها الحكام ورجال الدين، أو القيم والأفكار المتوارثة. الإنسان الهمجي يؤمن بالحقيقة المطلقة، الثابتة، وبيقين راسخ، ولا يتقبل أي تعددية أو تنوع، ويعتبر كل من لا يؤمن مثله بالحقيقة المعتمدة كافراً بدينه أو خائناً لوطنه ويمارس ضده أشد أنواع القمع، الذي يبدأ من الاتهامات الباطلة وتشويه السمعة، وقد يصل إلى حد الاغتيال.
يتعرض المجتمع الهمجي لحالة دائمة من الشحن العاطفي تمارسه وسائل الإعلام الرسمية والشعبوية، بحيث يتوارى العقل خلف خطاب ديماغوجي تبريري تحريضي، يقلب الحقائق، ويوجه الرأي العام، بتمجيد السلطة، أو تأليه الحاكم الفرد، أو تقديس الرموز، أو استعداء الناس ضد المعارضين السياسيين، أو المفكرين والمبدعين، باعتبارهم خونة وعملاء، أو إشاعة كراهية ضد المختلفين، أو التأليب على الأجانب باعتبارهم جميعاً جواسيس. وبهذا الشحن العاطفي يسهل جر الجماهير وتحريضها على أي شيء، لأن الخطاب العاطفي يحجب عنها رؤية الواقع، ويعطل قدرتها على التفكير والتقييم والنقد.
غالباً يتماهى نظام الحكم مع المجتمع، ويكون الطرفان انعكاساً ونتاجاً لبعضهما البعض، وبينهما علاقة تأثر وتأثير متبادل. يستطيع الشعب المتحضر تغيير نظام حكمه، أو التأثير فيه، ويستطيع النظام إحداث تغييرات كبرى في ثقافة المجتمع، ودفعه نحو التحضر، ولكن بصورة عامة الأنظمة (بسبب امتلاكها القوة والإعلام وسلطة القانون) هي التي تدفع شعوبها نحو السلوك الهمجي أو المتحضر. الأنظمة الاستبدادية والفاسدة تحرص دائماً على دفع المجتمع بالكامل نحو الهمجية، من أجل البقاء في السلطة والإفلات من أي محاسبة أو رقابة، لأن المواطن في المجتمع الديمقراطي يتمتع بالعدل والحرية والكرامة، ما يدفعه حتماً إلى السلوك المتحضر. والمجتمع المتحضر لديه أدوات وإمكانية الرقابة والمساءلة، وإسقاط الحكومة، وتغيير النظام.