عاطف أبو سيف 2.jpg
عاطف أبو سيف 2.jpg

«كلمات إلى فلسطين .. الشعب والأرض»

هذا كان اسم البرنامج الإذاعي الأشهر في صوت العاصفة، إذاعة الثورة الفلسطينية التي كانت تبث من أكثر من مكان وكان في البداية مركزها القاهرة. وكان يتناوب على تقديم البرنامج كوكبة من نجوم الإعلام الفلسطيني كما سيصبح حالهم بعد ذلك، ولكن كان ثمة كاتب واحد يخلق كل الجمال والبهاء الذي تصاغ به عبارات هذا البرنامج، إنه يحيى رباح.
لا يمكن الحديث عن إذاعة الثورة الفلسطينية دون الحديث عن هذا البرنامج وعن اسمه اللافت «كلمات إلى فلسطين .. الشعب والأرض» كما لا يمكن في أي سرد لتاريخ الإذاعة الفلسطينية وقت الثورة إلا أن يأتي على ذكرى الكاتب الألمع والأبرز بين نجومها: يحيى رباح.
غادرنا يحيى رباح قبل أيام حيث ووري جثمانه الثرى، يوم أمس، في البيرة. وبرحيله تخسر الثقافة والإعلام الفلسطينيان اسماً كبيراً ترك أثراً واضحاً على الخطاب الإعلامي الوطني بشكل كبير ولافت. ليس لأن يحيى رباح كان يكتب برامج الإذاعة التي كان لها الفضل في تشكيل وعي الفدائيين والثوار كما في متابعة أهالي الأرض المحتلة لها بالسر، بل لأن يحيى واصل مهمته بعد ذلك عبر المواقع التنظيمية والكفاحية المختلفة التي شغلها بعد ذلك خاصة عمله مفوضاً سياسياً للقوات، ما فتح له الباب للحديث إلى المقاتلين في المواقع المتقدمة من أجل تثبيت عقيدتهم وشحذ هممهم لمواصلة القتال والصمود.
كان يحيى يقوم بذلك عن قناعة، ليست قناعة الكاتب الذي يدافع عن الثورة بل قناعة الفدائي الذي وجد في اللغة وسيلة يقاتل بها. وربما هنا يجب التفريق بين مهمة الكاتب في الثورة وبين مهمة الفدائي الذي يعبّر بالكلمة عن الثورة. ثمة تداخل واضح ولكن ثمة فرقا جوهريا. فيحيى رباح لم يكن كاتب رأي نخبوياً في «فتح» تنظيمه أو الحركة التي تعبر عن أفكاره، بل كان فدائياً درس الإدارة في القاهرة وعمل في الثورة فوجد أن أفضل ما قد يقوم به هي صياغة وعي الفدائيين وتعبئتهم من خلال الكلمات التي تشبه الرصاصات في قوتها، الكلمات التي تجعل الفدائي يواصل مهمته مهما كانت الصعاب.
ثم ومن خلال مهامه المختلفة نجح يحيى في مواصلة ما آمن به حيث عمل سفيراً لفلسطين في اليمن في الوقت الذي كان جزء كبير من قوات الثورة يتمركز هناك بعد الخروج من بيروت. كان ثمة حاجة لمن يستطيع التعبير عن حاجات الثورة في المرحلة الجديدة ومن يقدر على نسج العلاقات حتى لا تفتر عزيمة القوات. كان يحيى يجيد التعبير ببلاغة مذهلة ويجيد نسج العلاقات بطريقة اكثر، وكان يعرف كيف يقول الموقف الوطني بلا تردد وبلا مواربة. وهو ما لازمه بعد ذلك حين عمل في التوجيه السياسي بعد إقامة السلطة الوطنية بعد اتفاق أوسلو أو بعد ذلك عمله في قيادة حركة فتح في قطاع غزة.
يحيى مثل الفلسطيني اللاجئ الذي أجبرته جرائم العصابات الصهيونية على ترك قريته الهادئة الوادعة والبحث عن الحياة حتى يعود إليها. فالطفل الذي ولد في السوافير الشمالية ترك قريته ومرتع الطفولة ولم يبلغ السابعة من عمره ليجد نفسه يعيش في خيمة فوق التلال الرملية فيما بات يعرف بعد النكبة بقطاع غزة. بالنسبة ليحيى فإن الحاجة للثورة تنبع من تلك اللحظة.
الفلسطيني الذي ترك قريته أو مدينته أو حقله أو مصنعه بحاجة لأن يعود إلى هناك، وهو بحاجة لأن يحمل السلاح من أجل أن يتحقق ذلك، فهو ليس بحاجة للتنظير ولا للأفكار الكبيرة ولا للنظريات بل هو بحاجة لمن يقنعه أن الطريق إلى فلسطين لا تحتاج أكثر من إيمانه بحتمية ذلك.
من هنا، وجد يحيى في «فتح» الإجابة التي كان يبحث عنها أي لاجئ. هكذا كان يحيى يصف قوة وجاذبية «فتح» في حواراته الشخصية وأحاديثه واسترجاعاته. وحظيت حين  عملت معه في قيادة «فتح» في غزة بالكثير من تلك الأحاديث التي كان يكشف فيها عن قوة تنظير كبيرة ومقنعة وهي ما جعلته واحدا من أبرز من صاغ خطابات «فتح» الإعلامية وعبر عنها بقوة شديدة إلى جانب كوكبة من الأسماء الكبيرة في العقود الثلاثة الماضية. وربما نستذكر في هذا المضمار مثلاً الراحل أحمد عبد الرحمن. لقد ساهم يحيى رباح في صياغة مفردات الخطاب الفتحاوي، وربما أن الكثير من المصطلحات والتعبير والكلاشيهات التي ننطقها ونقولها والتي باتت من أساسيات الخطاب الإعلامي للحركة الوطنية هي من براءة اختراع يحيى.
وبالعودة إلى بدايات يحيى، فمن المهم أن ندرك أنه تعلم كل هذه الحماسة الوطنية على يد أحد آباء الحركة الوطنية و
أحد أبرز مؤسسي حركة فتح الراحل الكبير صلاح خلف. كان أبو إياد يعمل معلماً في مدرسة خالد بن الوليد حيث يدرس يحيى. هناك في تلك الدروس استوعب يحيى الفكرة الفتحاوية التي كان يبشر بها عقل «فتح». من هنا، بدأ انتماء يحيى الذي سيكبر ويتواصل مع الزمن.
في بيت عزاء يحيى في رام الله، يوم أمس، وقف أحد رفاق درب باجس أبو عطوان المناضل يونس الرجوب وتحدث عن برنامج يحيى «كلمات إلى فلسطين .. الشعب والأرض» الذي كان يستمع إليه هو ومجموعة الفدائيين التي أمضت سنوات مطاردة في جبال الخليل، وكانت كلمات يحيى رصاصات تشحذ هممهم وتطرب آذانهم وتدلهم أنهم على الطريق الصحيح. كانت فترة بث صوت العاصفة لساعة ونصف الساعة في ذلك الزمن وكان سماعها جزءاً من استمرار المهمة.
للكلمة قوة لا تضاهى وللبلاغة حضور لا يقاس، ولكل ما قدم يحيى من برامج إذاعية أو قصص، فهو كتب القصة القصيرة أيضاً، قوة لا يمكن أن تزول حتى وإن غيّب المرض يحيى عن عالمنا.